مقال للدكتور أحمد خيري العمري :
لست من الجيل الذي طرب لفرانك سيناترا وهو يغني أغنيته الشهيرة "نيويورك، نيويورك".. لكن جيلي، والأجيال اللاحقة بالتأكيد تعرض لمنطوق الأغنية الذي يتغني بالحلم الأمريكي الذي صدر إلى بلادنا، أحيانا بقوة الإعلام وبقوة ما لا يمكن إنكاره من منجزات أمريكا فعلا، وأحيانا بقوة الفراغ واللا شيء المزدهر في بلادنا..
تتحدث الأغنية الشهيرة عن الهروب من أحزان المدن الصغيرة وإيقاعها البطيء إلى نيويورك المدينة الحيوية، "المدينة التي لا تنام"، التي "إذا نجح فيها الإنسان فإنه ينجح في كل مكان".. مدينة "الرقم واحد ".. و"قمة القائمة"...
سيناترا كان يتحدث عن الخروج من مدينته الصغيرة في ولاية نيوجيرسي الفقيرة المجاورة، لكن "الحلم الأمريكي" كان يتسرب إلى الجميع، كل مدننا وعواصمنا، بكل ما فيها، بدت في لحظة المقارنة الفارقة، كما لو كانت مدنا صغيرة حزينة وبطيئة.. وبدا معيار النجاح أمريكيا خالصا، بالذات رسخ في أذهاننا ذلك عبر كل ما تمثله نيويورك في أذهان أولئك الذين لم يزوروها قط، لكنها زارتهم بطريقة أو بأخرى.. زارتهم في أحلام اليقظة الأكثر تأثيرا من أي حلم يزورك في منامك..
ناطحات السحاب الشاهقة مثلت حلم التفوق، وتمثال الحرية يومئ من بعيد مثّل لشعوبنا الغارقة في استبداد حكامها حلم الحرية بعيد المنال.. والوول ستريت مثّل الثراء السريع عبر المضاربة السهلة.. التناقض بين واقعين يزيد الواقع الناجح نجاحا وبريقا، كل أضواء برودواي اللامعة ستكون أكثر بريقا ولمعانا عندما تقارن بواقع آخر لم ينجز شيئا.. أو كاد أن لا ينجز شيئا...
الدخول إلى نيويورك برا سيجسد ذلك التناقض بين واقعين، وسيكون بمثابة تمرين صغير على ما حدث معنا في العالم العربي والإسلامي بمعنى أوسع.. الأحياء السكنية على الطريق مسورة بأسوار عالية وعدوانية على نحو يوحي بأن الأمور ليست على ما يرام من الناحية الأمنية..
على مشارف نيويورك وقبل الدخول لها تنتشر "الخردة" ومخلفات المصانع وأحشاؤها بطريقة تشبه ما هو موجود في الطرق الخارجية في بلداننا عموما.. و من بعيد، ستبدو نيويورك بناطحات سحابها كما لو كانت "مناراً" تقول لكل طموح وموهوب أن لا يرضى بواقعه ويقبل التحدي ويأتي لها.. .
أليس هذا ما حدث معنا أيضا ؟.. ألم يتسرب الحلم الأمريكي ألينا من ثقوب صنعتها سلبيتنا وعدم التزامنا بكل المعاني الإيجابية الموجودة في ديننا؟!..
ألم يتسرب الحلم الأمريكي بالتدريج على أطراف أصابعه بأقوى مما تفعله أي أيدلوجية مدعومة وزاعقة؟!
ألم يكن تسربه التدريجي هذا سببا في كون تشربه أقوى من أي أيدلوجية أخرى، وهو تشرب طال حتى أولئك الذين ينكرون إيمانهم بالحلم الأمريكي لكنهم يعملون على أسلمته عبر لَيِّ عنق النصوص هنا وهناك ( بوعي أو بلا وعي، هذا أمر آخر.. )..
نيويورك تمثل جزءا من الحلم الأمريكي الذي تم تصديره إلى العالم عموما ( أما الحلم الأمريكي بالنسبة لمن يعيش في أمريكا أو بالنسبة للأمريكيين فهو يتمثل في العيش الآمن في الضواحي ببيت كبير وسيارتين ورصيد مريح في البنك.. لكن هذا موضوع آخر الآن.. )
الحلم، أي حلم، قد يكون جميلا وبراقا، لكن ما هو أهم من ذلك هو واقعه.. ونيويورك مدينة لا شك في جمالها، متاحفها من أهم المتاحف في العالم، وجامعاتها من أفضل الجامعات في الولايات المتحدة (لا تتفوق عليها في ذلك إلا مدينة بوسطون)، وفيها أغلى كلية في الولايات المتحدة ( وربما في العالم ) وهي كلية "سارة لورنس"، والطريف أن هذه الكلية بالذات غير معترف بها في أمريكا من قبل المؤسسات التعليمية، وهي حقيقة على بساطتها توضح المنطق "اللامنطقي" الذي تسير به الأمور أحيانا، فبإمكان أي أحد أن ينشئ ويفتتح جامعة في الولايات المتحدة دون ضوابط من أي نوع، لكن الاعتماد الأكاديمي لن يُمنَح لأي جامعة ما لم تجتز معايير منوعة، وبالتالي فإن أي طالب يستطيع الدراسة والتخرج من جامعة غير معتمدة لكنه لن يجد فرصة في سوق العمل بهذه الشهادة، لكن ما الذي يجعل أي طالب يدفع أكثر من خمسين ألف دولار سنويا لشهادة لن يستطيع الحصول على وظيفة بها؟.. ربما لأنه لن يحتاج للوظيفة أصلا!، ربما كان من تلك الفئة التي تتوظف في شركة تملكها أصلا أو تملكها العائلة، وليس بحاجة حقا إلى البحث عن عمل حقيقي، وربما يفسر ذلك الدراسة في كلية هي الأغلى، حيث تسود ثقافة التشاوف والتباهي بكل ما هو "غال" حتى لو كان بلا قيمة حقيقية، وهي ثقافة راسخة الجذور في مجتمع رأسمالي يقيس الأفراد بقدرتهم الشرائية ( أي بكونهم زبائن محتملين لا أكثر ولا أقل)...
مدينة الحلم الأمريكي نيويورك تضم إذن جامعات ممتازة ومتاحف رائعة ومراكز ثقافية مهمة (مركز روكفلر الشهير المكون من ستة عشر بناء).. لكن ماذا عن الناس فيها؟ ماذا عن البشر الذين يعيشون هذا الحلم؟ هل هم انعكاس لهذا الحلم؟ .. أم أن حياتهم "كابوس" تعايشوا معه وقرروا أنه ربما يكون جميلا؟!...
المدينة الرمز لم تعكس هذا الحلم في إحصاءات السعادةNational Happiness survey التي أجريت في كل ولاية من الولايات الخمسين ، فقد احتلت نيويورك المركز الخامس والثلاثين بين الولايات الخمسين في مقدار "رضا" سكانها عن وضعهم، وبعض أحيائها كانت في مراكز هي الأسوأ على الإطلاق بالنسبة لكل الولايات المتحدة.. الانهيار الاجتماعي وأرقامه قد تفسر "عدم السعادة" حتى لو لم يكن ذلك مقنعا للأشخاص الذين يعنيهم الأمر:
في عام 2007 كان هناك أكثر من 100 ألف ولادة غير شرعية في مدينة نيويورك وحدها، من ضمنهم ولادات حصلت لخمسة آلاف قاصر دون سن السابعة عشر وهناك حوالي 200 حصلت لفتيات دون الثالثة عشر.. و هو رقم مرتفع جدا بالنسبة لمدينة تعداد سكانها 8 ملايين نسمة..
حالات الإجهاض لنفس السنة لم تكن أقل: 120 ألف حالة إجهاض من ضمنها حوالي عشرة آلاف إجهاض لقاصرات، وألف حالة دون سن الثالثة عشر.. في نفس السنة، شهدت نيويورك 61 ألف حالة زواج، وشهدت محاكمها أيضا 54 ألف حالة طلاق !! ( أقل من 4 آلاف فقط من هذه الحالة كانت بشكل ودي !.. )..
في مدينة نيويورك، يوجد مليون و137 ألف حالة تعاني من إدمان الكحول وسوء استعمال الكحول alcohol abuse ( وهو التعبير الذي يستخدمه أطباء النفس عن الاستخدام المتكرر للخمر رغم النتائج السلبية الناتجة عن هذا الاستخدام، دون أن يصل للإدمان الأكثر تاثيرا).. من هذا العدد يوجد 83 ألف حالة لأفراد تتراوح أعمارهم بين 12- 17سنة فقط... و 323 ألف حالة بين سن الـ 18 والـ25 .. . يوجد أيضا 440 ألف حالة إدمان للكوكايين.. من ضمنها 22 ألف حالة لأعمار بين الـ 12و الـ 17.. وأكثر من 140 ألف حالة للأعمار بين 18-25..
مستخدمو الماريوانا لسنة واحدة تجاوز المليونين شخص، من ضمنهم ربع مليون بين أعمار 12-17 وأكثر من 600 ألف للأعمار بين 18-25... نسبة المصابين بالأيدز من كل 100 الف نسمة هو الأعلى بين كل الولايات الخمسين بمعدل 30 لكل 100 ألف نسمة، مقابل 12 لكل 100 ألف نسمة في المعدل الوطني، علما أن الحصاد الكبير للأيدز قد مر على نيويورك وانتهى منذ أواخر الثمانينات.. الإحصاءات الحكومية لعام 2004 تذكر أن حوالي نصف مليون من سكان المدينة (430 ألف نسمة) عانوا من كآبة مرضية حادة major depressive disorder (وهي لا تشبه الكآبة العابرة التي يندر أن لا يعاني منها إنسان) نفس الإحصائية ذكرت أن عشرة بالمائة من المراهقين الذين شملهم الاستطلاع ذكروا أنهم حاولوا الانتحار في الاثني عشر شهرا الماضية.. نسبة من هم تحت خط الفقر في مدينة الحلم الأمريكي تبلغ 38 % وحذار من تصور أن من هو تحت خط الفقر في أمريكا مترف ويعيش أفضل ما نعيش، هؤلاء يجدون صعوبة في الحصول حتى على الطعام، يبلغ عدد من يحتاجون إلى الحصول على المساعدات (الطعام) ثلاث ملايين من سكان المدينة، يستلم منهم فعليا نصف مليون فقط..
المدينة التي لا تنام كما وصفها سيناترا، ينام في شوارعها 40 ألف من المشردين homeless بشكل دائم، ويمر بتجربة النوم في الشارع 100 ألف كل سنة.. (الطريف أن القوانين في الولايات المتحدة تنظم ذلك، بما معناه أنه يسمح لهؤلاء المشردين النوم في أنفاق المترو والحدائق العامة ولكن يجب أن يستيقظوا مبكرا -في السادسة أو السابعة صباحا حسب الولاية-.. لم هذا الحرص على النهوض المبكر؟ بالتأكيد ليس من أجل الصحة العامة ولكن لكي لا يزعج المنظر أولئك الذين يذهبون إلى وظائفهم أو السياح الذين ستتشوه نظرتهم إلى المدينة بمنظر هؤلاء المشردين، الحل؟ عليهم أن ينهضوا مبكرا.. !)
نيويورك قذرة بشكل عام، كنت سمعت عن ذلك الكثير ولكن المشاهدة غير السماع، ذكرتني للأسف ببغداد بعد السقوط، وجعلني ذلك أفكر إن كان الأمر صدفة أم أنه جزء من خطة تصدير الحلم بقمامته أولاً!..
نفق المترو مقزز باختصار وتنبعث منه روائح معلومة المصدر وتذكر بشكل عام بالمراحيض العامة ( وهو أمر علي أن أعترف أنه مناقض تماما لما هو موجود في واشنطن العاصمة).. قذارة نيويورك اتضح أنها أمر مفروغ منه وموثّق في الولايات المتحدة في قائمة المدن الكبيرة القذرة، التنافس بينها وبين سان فرانسيسكو على أشده، علما أن سان فرانسيسكو تتفوق على نيويورك بكونها موطن اللوّاط (دون أن يقلل ذلك من اللوّاط في نيويورك)!...
قذارة نيويورك أيضا تتجلى في حقيقة أخرى قد تثير استغراب من لم يعش في أمريكا أو زارها سائحا فقط متنقلا بين بيوت الأصدقاء والأقارب، انتشار قمل الفراش فيها! و هو نوع يمتلك قرابة و صلة نسب بالقمل العادي الذي يعتبر شتيمة و إهانة في العراق مثلا! الفرق بين النوعين ان قمل الفراش يسكن الاثاث و الملابس و خاصة الفراش و ليس فروة الرأس كما في النوع القديم ،لكنه في الحالتين يعيش على امتصاص دم ضحاياه أثناء نومهم.... و هم غالبا لا ينامون من "الهرش" (هل قصد سيناترا ذلك عندما قال عن نيويورك أنها لا تنام ؟) أنتشار قمل الفراش في نيويورك حقيقة معلومة مطمورة إعلاميا تماما ( هل رأى أي منا أبطال مسلسل فرندز-الأصدقاء- الذي تدور أحداثه في نيويويرك وهم يهرشون مثلا؟) ظاهرة قمل الفراش تحولت منذ أوائل الألفية الثالثة إلى وباء رسمي في نيويورك حتى في أحيائها الراقية ( في الحي الغربي العلوي من مانهاتن الذي يعد من أهم الأحياء التجارية في المدينة بين حديقة السنترال بارك الشهيرة ونهر الهدسون ) والحديث عن غزو القمل لنيويورك صار شائعا جدا مؤخرا (ليس في إعلامنا بكل الاحوال..)، البي بي سي مثلا حذرت السياح البريطانيين من الأمر( تقرير هيئة الاذاعة البريطانية من مراسلها في نيويورك بتاريخ 27 /3/2009) !!.. و مجلس مدينة نيويورك أنشئ مجلساً استشاريا لمحاربة الوباء ( قرار أصدره مجلس المدينة في 11 مارس 2009)! علما أن مكاتب وزارة الصحة في نيويورك قد تعرضت لغزو القمل وشاع أن موظفيها يهرشون أيضا ( على ذمة النيويورك بوست 25/9/2009).. !!
لا يمكن إنكار أنه مع ازدياد معدلات القمل في المدينة فإن معدلات الجريمة قد انخفضت مقارنة بما كانت عليه في التسعينات، معرفة السبب ليس صعبا جدا، فنيويورك تملك أكبر معدل لعدد الشرطة بالنسبة لعدد السكان( 91 موظف في الشرطة لكل 10 آلاف من السكان، و32 ضابط شرطة لنفس العدد) وهو العدد الذي تتفوق على كل مثيلاتها من دول العالم الغربي وغير الغربي ممن شاركت في الإحصاءات، لا يمكن مقارنة الأمر مع دولنا العربية لأسباب لا تخفى!!
هل نستغرب بعد كل ذلك إن كانت مدينة الحلم الأمريكي لا تحتل موقعا متقدما أو حتى متوسطا في إحصائية السعادة بين الولايات الخمسين؟.. الحقيقة أن الاستغراب يجب أن يكون على حصولها على المركز الخامس والثلاثين وليس الخمسين.. لكن ربما كان الأمر نتيجة طبيعية لآليات إقناع الناس أنهم سعداء عبر "غرس" مفهوم معين للسعادة، وبعض العقاقير المهدئة هنا وهناك التي تساعد على تقبل الأمر والتخفيف من" وطأة" هذه السعادة..
أدرك تماما أن أصدقاءنا من أدعياء التجديد ودعاة التغريب (ولا فرق كبير بين الاثنين غير أن الفئة الثانية أكثر صدقا من الأولى) سيتقبلون هذا الكلام بموقف واحد من اثنين: الأول يقولون إن "المخبى عندنا أعظم"، وإن مجتمعنا يعاني من نفس الانهيار الأخلاقي ولكننا نتستر عليه، وإن كل ما ذكر من أرقام وإحصاءات لدينا أيضا نماذج قد تفوقها في مجتمعاتنا التي تدعي العفة وتمارس كل ما تنهى عنه.. الخ.
لهؤلاء أقول: البركة فيكم!! وفي جهود أمثالكم وأسلافكم وروادكم عبر ثمانية عقود من محاولات التغريب.. هل يمكن أن نتصور أن مجتمعنا كان سيصل إلى ما وصل إليه لولا جهودكم الطوعية حينا (المدفوعة بوباء عقيدة النقص المستشري) وغير الطوعية أحيانا (المدفوعة الثمن من مراكز معلومة ولأسباب معلومة.. )..
الموقف الثاني من هؤلاء سيكون التأمل في الإحصاءات بحثا عن ما يقولون إنه "نصف الكوب الملآن! "، ثم سيقولون: انظروا عظمة الحضارة الغربية، انظروا دقتها، انظروا كيف ينظمون كل شيء حتى عيوبهم لأجل التخلص منها.. و لهؤلاء أقول: أكرمونا بسكوتكم! فنصف الكوب الملآن الذي تريدوننا أن نشربه ملآن بسم زعاف..
نيويورك مدينة جميلة فعلا من بعيد، ولا أقصد "من بعيد" هنا بعد المسافة الذي يجعلك ترى أضواء المدينة وناطحات سحابها، ولكن أقصد البعد الذي يجعلك تزورها كسائح عابر يزور متاحفها ومراكزها الثقافية ومسارحها..
المدينة الحقيقية ليست في واجهتها السياحية، بل في ناسها.. في أولئك الذين يعيشونها حقا، ويكونونها حقا.. باختصار: نيويورك الحقيقية لا تعبر عنها أغنية سيناترا حقا، بل يعبر عنها حوار في أحد الأفلام.. من ضمن أبطال الفلم، شخصية تنتمي لطائفة المورمون المعروفة بالتمسك بألاخلاق، البطل يذهب ليعيش في المدينة ويحاول أن يقاوم الانجراف في سلوكياتها لكنه ما يلبث أن يستسلم وينجرف.. يتأمل في ما انحدر إليه في لحظة صدق ويقول بصوت مرتفع: سأذهب حتما إلى الجحيم.. ينظر له صديقه بتعجب ويقول: هل تعتقد حقا أن الجحيم أسوأ من نيويورك ؟!!